تبرز عادًة تواريخ إنهاء الاستعمار دور الرجال، ومع ذلك كان لأنشطة النساء وبراعتهن دورًا كبيرًا ومفتاح نجاح في الكثير من الحركات المناهضة ضد الاستعمار في إفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية. ففي خلال حرب الاستقلال الجزائرية (واحدة من أعنف حروب إنهاء الاستعمار في القرن العشرين التي حدثت بين عامي 1954 و1962)، انضمت النساء إلى المقاومة الشعبية لإنهاء الحكم الفرنسي الطويل للجزائر. فقد شاركن النساء من مختلف الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والجغرافية كمقاتلات وممرضات ومنظمات للمجتمع ومعلمات ومدنيات في النضال من أجل استقلال الجزائر.

وإذا كان للمرء أن يصدق الإحصائيات الرسمية في الجزائر، فإن 3% فقط من جميع المحاربين القدامى كانوا من النساء [1]. إن هذا الرقم يقلل وبشكل كبير حجم مساهمة المرأة في رحلة الاستقلال، ويعكس أيضًا المعايير العسكرية الصارمة لاكتساب وضع المحارب المخضرم. هذه الإحصائيات أشارت إلى النساء اللواتي انضممن كفدائيات مدنيات في جبهة التحرير الوطني (الأفلان)، الفصيل الرئيسي المناهض للاستعمار في الجزائر. فقد تم تصوير أفعالهن المذهلة في فيلم جيلو بونتيكورفو (Gillo Pontecorvo) معركة الجزائر (The Battle of Algiers) الذي اشتهر بمشهد عندما قامت ثلاث نساء جزائريات بخداع جنود فرنسيين وزرع متفجرات في أماكن معروفة للأوربيين. وعلى نفس القدر من الأهمية وإن كان هذا الشيء أقل إثارةً هو دعم النساء لحركات الاستقلال في مناطق الريف الجزائري عندما ضمنت النساء بقاء المقاومة نشطة وكان ذلك من خلال إخفاء المقاتلين الجزائريين وإطعامهم والاعتناء بهم.

وفي حالات نادرة عندما يتم فيها استحضار النساء فإنهن يظهرن كمجرد رموز للنضال الجماعي والتضحية ضد الاستعمار، وهذا يكشف القليل عن الكيفية التي عاشت فيها النساء خلال حرب الاستقلال الجزائرية. فلهذا فإن تحويل النساء إلى مجرد رموز لإنهاء الاستعمار تغذي رؤيتهن المفرطة كصورة، وتمهد في نفس الوقت إلى إخفاء تجاربهن وخبراتهن الذاتية. بعد عام 1962، قام حزب الأفلان من جهة بحشد الإمكانات الرمزية للنساء لتحقيق غايات سياسية حتى يرسخ نفسه كحزب سياسي وحدوي في الجزائر المستقلة. فقد اختزل هذا الحزب صورة النساء الجزائريات البطولية، وقدم نفسه كحزب تقدمي اشتراكي ينادي بالمساواة بين كل الجزائريين. ومن جهة أخرى، قام بتصوير النساء وتقديمهن على أنهن ضحايا للعنف الاستعماري المفرط الذي نجح الأفلان في إيقافه. تم تصوريهن كبطلات أو كضحايا ونزلن إلى عالم رمزي أعاق البحث عن تجاربهن المعيشية خلال سنوات الحرب. لم ينسَ التاريخ هذا الدور للنساء تمامًا، ولكن لم يتم تذكرهن كما يجب، واستمرت النساء باحتلال مكانة ضعيفة في روايات حرب التحرير الجزائرية.

Marwa Arsanios, Have you Ever Killed a Bear — or becoming Jamila, 2013-2014, HD video (color, sound), 26:19 min. (still)

ما وراء الاستعارة: النساء والحرب يسلط الضوء على هذه المجموعة المنسية ويعرض أعمال خمسة فنانين تستكشف أعمالهم تجارب بعض النساء خلال مشاركتهن في حرب التحرير الجزائرية. أعمال مروة أرسانيوس وقادر عطية وكاتيا كاميلي ونادية مخلوف وزينب سديرة يتم عرضها جنبًا إلى جنب مع صور ومجلات تاريخية للوصول إلى فهم أدق للتقاطعات بين حياة النساء وتاريخ إنهاء الاستعمار في الجزائر.

الفنانة مروة أرسانيوس تتحدى الصورة النمطية للمرأة الجزائرية المقاتلة في فيديو لها بعنوان "هل قتلت دبًا من قبل – أو أصبحتِ جميلة" (2013 – 2014) وفي كتابها الكلمات صمت: اللغة قافية (2012). البطلة في هذا الفيديو هي ممثلة شابة طُلب منها أن تؤدي دور جميلة بوحيرد (مجاهدة جزائرية) في أحد الأفلام. بوحيرد هي المجاهدة الجزائرية البارزة التي كانت عضوَا في الشبكة التي قامت بعدة تفجيرات بالجزائر وأصبحت رمزًا خالدًا في فيلم معركة الجزائر وفي فيلم يوسف شاهين جميلة (1958). تم اعتماد صورة جميلة (المجاهدة) على غلاف الكثير من المجلات بما في ذلك مجلة الهلال المصري من خمسينيات إلى سبعينات القرن الماضي. تظهر أيضًا صورة جميلة (المجاهدة) في عمل أرسالنيوس وفي مجلة المصور (1958) التي تم تضمنيها في هذا المعرض كمادة لتأطير السياق التاريخي. في هذا الفيديو، تقوم الممثلة بمحاولات حذرة لتجسيد شخصية بوحيرد، بينما تضل مترددة في تمثيل هذا الدور أم لا. ولكن يبدو أن صورة بوحيرد الرمزية أصبح من المستحيل تجسيدها بعد تعرضها للعديد من التفسيرات.

Kader Attia, Colonial Melancholia, 2019, Video (color, sound), 30:51 min (still)

وفي محاولة منها للاقتراب من الشخصية التاريخية، تحدثت الممثلة مثل بوحيرد. لم تستحضر الممثلة مجد النضال ضد الاستعمار، ولكنها ركزت أكثر على موضوع عدم المساواة بين الجنسين في صفوف جبهة التحرير الوطني. "لم نكن نحارب الفرنسيين فحسب، بل كنا نحارب بعضنا البعض" كما تقول في محاولة لإظهار الجوانب البطريركية (الذكورية) للنضال من أجل الاستقلال – وهو موضوع مهمش إلى حد كبير في الروايات الحالية لحرب التحرير في الجزائر. هذه الرواية الخيالية يتردد صداها في ذكريات قدامى المحاربات (المجاهدات) مثل فضيلة مسلي التي أشارت إلى أن النساء خلال حرب التحرير "قدن ثورتين: واحدة ضد الاستعمار والأخرى ضد المحرمات [2]." إن فيديو الفنانة أرسانيوس وكتابها يشكلان روايات نسوية عميقة في عمليات تحول النساء إلى رموز وحدة وطنية لم تولِ اهتماما واضحًا لأوجه المساواة بين الجنسين.

بينما تعيد أرسانيوس النظر وبشكل نقدي في مكانة بوحيرد الرمزية، تقدم أعمال الفنانين قادر عطية ونادية مخلوف وزينب سديرة المقابلات الودية والذكريات الشفوية. ففي فيديو قادر عطية الكآبة الاستعمارية (Colonial Melancholia, 2019) تستذكر الحاجة حاجونة دبا البالغة من العمر 102 عامًا كيف استطاعت النساء الجزائريات دمج العملات الاستعمارية الفرنسية لتصميم مجوهراتهن كعلامة لإعادة الاستيلاء الثقافي. تتشابك ذكريات دبا عن الحرب مع شرحها عن كيفية ارتداء النساء للمجوهرات. تؤكد أن ذاك الشيء وتقول: "كان هذا مألوفًا في ذلك الوقت، أُقسم." تنظم دبا إلى عطية ووالدته التي تستذكر جدة الفنان وهي تجمع المجوهرات من النساء اللواتي عشن في جبال الأوراس شمال شرق الجزائر كوسيلة لمساهمة المجاهدين ماليًا في النضال ضد الاستعمار. كاشفًا عن الطرق غير المعترف بها في دعم النساء للنضال، يقدم فيديو عطية الكآبة الاستعمارية تحقيق طويل الأمد عن عملية نزع المُلكية الاستعمارية وإمكانية إعادة التملك.

Zineb Sedira, Retelling Histories, my mother told me..., 2003, Video projection (color, sound), 8:46 min. (still)

انتقال الذاكرة بين الأجيال يبني أيضًا فيديو زينب سديرة إعادة سرد التاريخ، كما أخبرتني والدتي (2013) الذي يقدم الفنانة في حوار مع والدتها (البطلة المتكررة في أعمال سديرة المبكرة). في هذا الاسقاط الأوحد، تستذكر والدة سديرة كيف اعتادت وعن قصد على جعل وجها يبدو متسخًا عندما دخل الجنود الفرنسيين قريتهم لتجنب العنف الجنسي. وقد أشار الكثير من المؤرخين أن عمليات الاغتصاب والتعذيب تمت المصادقة عليها وبشكل غير رسمي من قبل الجيش الفرنسي خلال الحرب [3]. تناقش والدة سديرة دور "المتعاونون" خلال الحرب، المعروفون بـ "الحركيين" وهم الجزائريون الذين انضموا للجيش الفرنسي، وكان ذلك غالبًا بسبب الفقر المدقع. في فيلم إعادة سرد التاريخ، كما أخبرتني والدتي، تصور سديرة نفسها كوريثة لذكريات والدتها عن الحرب بطريقة تذكرنا بفيلم آسيا جبار نوبة النساء بجبل شنوة (La Nouba des Femmes du Mont-Chenoua, 1977) عندما تتحدث ليلى (وهي البطلة الرئيسية للفيلم) مع نساء قريتها عن تجاربهن أثناء انتهاء الاستعمار. يجدر هنا الإشارة إلى أن كلمة "إعادة سرد" في عنوان الفيديو تشير إلى مرونة الذاكرة والانفتاح على روايات الحرب.

Nadja Makhlouf, Henda from the series De l'invisible au visible: Moudjahidate, femmes combattantes, 2014, Archival pigment print, 15.7 x 23.6 in

أما مسلسل نادية مخلوف من غير المرئي إلى المرئي: نساء مجاهدات ومقاتلات (De I’invisible au visible: Moudjahida, femme combattante, 2014) فيعطي فكرة عن مدى كون النساء جزءًا لا يتجزأ من حروب إنهاء الاستعمار. فقد صورت الفنانة النساء اللواتي ناضلن من أجل استقلال الجزائر، وربطت هذه الصور مع صورهن التاريخية وسيرتهن الذاتية. تم اختيار جميع هذه الصور من ألبومات النساء الشخصية، وهذا يكشف رغبة النساء الحقيقة في الكيفية التي يرغبن فيها بإحياء مساهمتهن في الاستقلال.

إحدى هذه الصور الثنائية صورة هنده (من مواليد 1927، الجزائر العاصمة، الجزائر) التي انضمت إلى الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني في تونس وأدت عروضًا في الإتحاد السوفيتي والصين والعراق ومصر لزيادة الوعي عن الحرب. هذه الصورة التاريخية لهنده تصورها في زي متقن، ومن المحتمل أن تكون قد التقطت خلال عرض ابتدأ وانتهى بأغاني وطنية وعرض للعلم الجزائري. تظهر في الصور الثنائية الأخرى فاطمة قاضي (مواليد 1923، الجزائر) وأوالي أويسي سنوسي (من مواليد 1938، تلمسان، الجزائر) بالزي الرسمي، وهذا يكشف تورطهما مع الماكيين (the maquis) المعروفة بـ (حركة العصابات الريفية). الحلفاء الآخرون في المقاومة مثل أليس شرقي (Alice Cherki) (من مواليد 1936، الجزائر العاصمة، الجزائر) وهي امرأة يهودية قدمت الرعاية لمقاتلي جبهة التحرير الوطني في مستشفى كان يديره فرانتز فانون في البليدة، الجزائر، اختارت أن تظهر بصورة جواز سفر بسيطة. الصور الثنائية الأخريات تضمنت العديد من الصور العائلية التي ظهرت العلاقات العائلية الودية، وصورًا أخرى تظهر المهام التقليدية الخاصة بالنساء مثل الخياطة التي استخدمت في صناعة الأعلام الجزائرية باسم الثورة. تجدر الإشارة أن هذا المسلسل يركز فقط على النساء اللواتي اعترفت بهن الحكومة الجزائرية رسميًا كمقاتلات قدامى، بمن فيهن المستوطنات الفرنسيات اللواتي انضممن إلى المقاومة الجزائرية.

Katia Kameli, La cité du bonheur, from the series Soyez les Bienvenus, 2018, Archival pigment print, 39.4 x 27.5 in

بينما تهتم مخلوف بالحياة الفردية، تعكس كاتيا كاميلي الآليات الأوسع نطاقًا للكتابة التاريخية في مسلسلها مرحبًا بكم (Soyez les Bienvenus, 2018)، المكون من مطبوعات وصورة متحركة واحدة. تظهر هنا صور رائعة للمقاتلات المسلحات جنبًا إلى جنب مع وجهات النظر الاستشراقية التي أنتجها الفرنسيين، بالإضافة إلى صورة الرئيس الثاني للجزائر بعد الاستقلال هواري بومدين والثوار بمن فيهم تشي جيفارا. إن هذا الترابط بين المصادر المختلفة لا ينتج قصة متماسكة عن الأمة، بل يعكس اهتمام كاميلي الطويل الأمد بدور الصور في تشكيل الذاكرة الجمعية. ومن خلال جمع صور مقاتلات جزائريات بجانب صور ثوار معروفين، تؤلف كاميلي فسيفساء بصرية تتجنب من خلالها سرد تاريخ ثابت للشخصيات وتفتح أفاقًا جديدة لم تكن معروفة لإمكانية كتابة تاريخ الحرب من وجهة نظر المرأة.

تواصل حرب الاستقلال الجزائرية عبر الفيلم والأدب والفن في تشكيل مخيلاتنا الجمعية. ومن خلال إبراز الأعمال الفنية المعاصرة التي تناولت تجارب النساء خلال صراع دام 7 سنوات، يدعو معرض ما وراء الاستعارة: النساء والحرب الزوار إلى التفكير في السياسات الانتقائية لإحياء الذكرى العامة والسجل التاريخي.

Katarzyna Falęcka
Open Call Exhibition
© apexart 2021

[1]. تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة المجاهدين الجزائرية أن عدد المجاهدات من النساء أثناء الحرب هو 10949. في عام 2014، قدمت نسيمة قسوم فيلم عنوانه 10949 امرأة لإحياء ذكرى هذا العدد من المحاربات القدامى
[2]. ذكرت فضيلة مسلي في كتاب Natalya Vince, Our Fighting Sisters: Nation, Memory and Gender, 1954-2012, (Manchester: Manchester University Press, 2015), pp. 96-97
[3]. انظر James D. Le Sueur “Torture and the Decolonization of French Algeria: ‘Race’ and Violence in Colonia Incarceration” in Captive and Free: Colonial and Post-Colonial Incarceration, ed. Graeme Harper (London: Bloomsbury, 2002); Raphaëlle Branche, “The French Military in its Last Colonial War: Algeria, 1954-1962 – the Reign of Torture,” in Interrogation in War and Conflict, eds. Christopher Andrew and Simona Tobia (London: Routledge, 2014)
 

To the exhibition page