لقد تطور المصطلح "كْوير"--أي "حرّ الجنس"، ولا يقتصر ال"جنس" هنا على رغبات الجسد وهوياته، بل يتعداها ليشمل كل تصنيف معرفي جامد الحدود--إلى حد كبير في اللغة الإنجليزية. فبينما كان يشير في الأصل إلى ما هو غير مألوف، تحول "كوير" مع الوقت ليصبح لقباً ازدرائياً للمثليين، ثم صفة تُطلق على كل الهويات الخارجة عن حدود الثنائية الغيرية النمطية، ثم مصطلحاً عامّاً يشمل كل المقاربات والتجارب اللا-معيارية. وفي حالات معينة كان يُستخدم هذا المصطلح لوصف الثقافة العربية.

وبخلاف وجوده البارز في تاريخ اللغة الإنجليزية، لم يكن ل"كوير" أي وجود في تاريخ اللغة العربية يمكّنه من القيام بوظيفة التعريف، وهذا بالرغم من رواج نماذج عديدة من الحالة ال"كويرية" أو حالة تحرّر الجنس والهوية من القوالب الثابتة على مدى تاريخ الثقافة العربية، ومن بين هذه النماذج عدم الامتثال للتقاليد الثقافية الغربية والاحتفال أحياناً بالإيروتيكية المثلية. فعلى سبيل المثال، عالج الشاعر أبو نواس تيمات مثلية في أشعاره من القرن التاسع، التي تعكس طابعاً عصرياً في احتفالها بالشهوة والرغبة المثلية:

وَفي الحَمّامِ يَبدو لَك      مَكنونُ السَراويلِ
فَقُم مُجتَلِياً فَاِنظُر      بِعَينَي غَيرِ مَشغولِ

Queer Habibi, 1, 2018, Digital drawing, Dimensions variable

تقصّي ’العربي‘ وتقليب ماهيّته الجنسية" هو معرض يستكشف تحرر الجنس (أو الحالة ال"كويرية")" من وجهة نظر عربية، هادفاً بذلك إلى تطوير وتطبيق مفاهيم جديدة للمصطلح "حر الجنس/كوير". فالمعرض هذا يتقصى تفاسير متداوَلة لمصطلحات مثل "حر الجنس/كوير،" "عربي،" و"الفن"، ثم يقلّب ماهيّتها، وبهذا يجتاز حواجز الافتراضات ليستكشف معانٍ غير مألوفة. في هذا السياق، يمكن ل "حر الجنس/كوير" أن يرتبط بالجنسانية، ولكنه عملياً يتعدى الجنسانية ليشمل كل فعل تعبيري لا يمتثل للنمط السائد، أي كل ما يخرج عن نطاق العادات والتقاليد. ولا تُستثنى صفة "عربي" من عملية التقصي والتقليب، فهي كلمة تُفسَّر بعدة معانٍ، من بينها من يتكلم اللغة العربية، ومن يقطن شبه الجزيرة العربية، ومن يعيش في دول عربية اللغة. وأخيراً، يتحدى المعرض التصور الرائج لفضاء الفن كمكعّب أبيض معقّم، ويعيد النظر في دور جمهور الفن وفي قدرته على تحويل أو استخدام العمل الفني ولعب دور فعّال في صياغة معنىً أو تفسير لهذا العمل. نظراً لكل ما ذُكر أعلاه، ينبغي لنا أن نوضّح أن لا أحد من الفنانين المشاركين يتفق بتناغم تام مع أيٍ من التصانيف المبسّطة التي توحي بها المصطلحات "حرّ الجنس/كوير"، "عربي"، و "فنان". فأي تعريف جامد لهذه المصطلحات يمكنه أن يُقصي الفنانين الغيريين، والذين يتكلمون العربية من دون أن ينظروا إلى أنفسهم كعرب، والذين يختارون أداة فنية لا تتطابق مع المفهوم التقليدي لما هو "الفن الراقي" الذي يستحق أن يُعرض في معرض فني. نحن نسعى بروح جاهدة في هذا المعرض إلى تفسير وتطبيق أوسع لكل هذه المصطلحات التي نتقصى معانيها ونقلّب دلالاتها. وبالرغم من اقتصار عدد الفنانين المشاركين على ٦، وهو أمر يضيّق نطاق المعرض ويحدّ من ما ومن يمكن أن يُعرض فيه، إلا أن هدفي من وراء هذا المعرض هو تقديم جزء بسيط من مشروع ثقافي أوسع بكثير، أتمنى أن يتجسد في المستقبل بمساهمة غيري ممن يطمح إلى تشييده وتطويره.

سيتم افتتاح المعرض ب"تفضّلوا عندنا"، وهو سلسة من قطع السجاد من صنع جميل حِلو فنان برازيلي-سوري يستكشف في أعماله قضايا العرق وجنسانية التحرر والنوع الاجتماعي ("الجندر"). وتتناول هذه الحلقة من السلسلة صناعة السجاد كحرفة عربية تقليدية، كما تتناول عادات الضيافة العربية. كل السجاجيد تصوّر رجالاً ذوي أشباه عربية وهم في وضعيات حميمة. أما الصورة المطبوعة على السجادة الافتتاحية، فهي لرجل يعزف العود ويستميل بعزفه رجلاً آخر جالس، وبهذا تمثّل الصورة رؤية استشراقية واضحة ومقصودة. ويمكن اعتبار موضع هذه السجادة استراتيجياً، فهو يُبرز للعين الصورة الاستشراقية ل"العربي حر الجنس" ويدعو الزوّار إلى الدعس على الجوهرية المضلِّلة المتغلغلة في هذه الصورة. ومن الممكن أيضاً أن يدعس بعض الزوار على سجاحيد أخرى سهواً، مما يكرر رمزياً وضع من يكبت روايات تحرر الجنس بالرغم من حسن النوايا. ونتيجةً لانعدام أي إرشادات حول كيفية التنقل بين الأجزاء المختلفة للعمل، تتقلب ماهية العلاقة التقليدية بين المشاهد والعمل الفني. ومع مرور الوقت ستتحول السجاجيد لتعكس عدد الناس الذين يدعسون عليها بأحذية ملطّخة.

Jamil Hellu, Be my guest, 2016-21, Digital textile print, Dimensions variable

وللفنان جميل عمل تركيبي حائطي بعنوان "قصة أي بي سي دي"، يستكشف فيه صراع أم من أجل فهم وتقبّل ومحبة صفة اللا-امتثالية التي يتحلى بها ابنها. فنرى رسالة مطبوعة للأم معروضة بين سلسلة من الصور تستدعي تجارب وذكريات تساهم في بناء هوية. ويؤطّر هذا العمل مربّع كبير وردي اللون مصبوغ على الحائط. وبينما يشير المربع ضمنياً إلى تصورات تاريخية لل"مثلية الجنسية"، يتخطّى حدودَ المربع العديد من صور، ما يشير إلى عجز أي لقب منفرد عن احتواء الهوية بكل أوجهها المتقلبة.

ولقد تم تصميم مساحة معينة في المعرض وفقاً لنموذج غرفة النوم، حيث تظهر صور لتَحرر الجنس على أغطية تزيينية وبطانيات وسجاجيد وفيديوهات مختلفة. تتقصى هذه المساحة قدرة المكعب الأبيض المأثور على القيام بوظيفته كمساحة متوفرة للفن اللا-نمطي، أخذاً بالاعتبار عدم اكتراث المكعب على مدى تاريخه بالفنانين غير الغربيين وغير الرجال. وبينما يبدأ عالم الفن باحتضان الفنانين الذين لم ينالوا الدرجة المستحقة من التمثيل، لا تزال هناك مساحة محدودة لاكتشاف أوجه التقاطع بين تجارب التهميش بكل أنواعها. وبالنسبة للفنانين العرب الذين يتمردون على التوقعات التقليدية، تتم معظم هذه الاكتشافات في غُرَف نوم وغيرها من المساحات الآمنة.

في هذا المشهد من غرفة نوم ما نرى أعمال كوير حبيبي، وهم كيان فني جماعي مجهول الهوية، تصور رسومه الحياة المثلية اليومية في العالم العربي. لا يزال من الصعب الوصول إلى كوير حبيبي وتحديد مكانه، بالرغم من محاولاتنا العديدة للتواصل معه، فيظل الصمت مخيماً على القنوات التابعة له في وسائط التواصل الاجتماعي منذ الانفجار في بيروت. لكن رسومه متوفرة على أصناف عديدة من البضائع كالأغطية التزيينية والملابس والبطاقات البريدية والرسوم المطبوعة. وتجمع تصويراتهم للحياة المثلية البسيطة في العالم العربي بين الحميمية والتحريض، كما يمكننا أن نستشف رغبةً في الظهور وفي نيل التقبل الاجتماعي من اختيارهم لوضع الرسوم على أشياء مقصودة للاستخدام اليومي.

Aghiles Mana, 1€ Candy Shop Fairy, 2018, Digital drawing, Dimensions variable

ويبيّن العمل "عفريت وجاثوم شَبِق" أغيلاس مانع شخصين متداخلين عن قرب في ديناميكية غريبة محورها الصراع للقوة. فنرى شخصاً جالساً ومرتدياً عمامة يسيطر فيما يبدو على شخص آخر، يمسك الأول بعنق الثاني بقبضة يمكن أن تشتد في أية لحظة. ولكن عندما نُمعن النظر في الرسم نرى سلسلة تلتفّ حول عنق الشانق المزعوم وتُخضعه لتحكّم الشخص المستلقي بتراخٍ على الأرض. بالنسبة لأغيليس، وهو مهاجر جزائري ساكن في ألمانيا، يتناول هذا العمل تجربته لهويته عبر نظرة غربية، وهي نظرة فرضت عليه مراراً صفة الغرابة الفتّانة مع توقّع أدائه لدور المعتدي المسيطر وفقاً لفنتازيا استعمارية الأصل. ويجعل أغيليس من هذه الفنتازيا مساحة لاستكشاف علاقات القوة والتراث الثقافي. كرسام رقمي، يصنع أغيليس مراراً أعمالاً لا تُعرض عادةً في المساحات المخصصة للفن المعاصر--بخلاف ذلك، نجد أعماله بوفرة على شبكة الإنترنت، في الوسائط الاجتماعية وفي مدونته الخاصة.

The Earl of Bushwick, The Earl's Kilt 1, 2019, Fabric

وبصفتي كفنان (شريف بوشويك) وكالقيِّم الفني لهذا المعرض، أضمّ إليه بعضاً من أعمالي. فيمثل "إزار الإيرل" بالجزأين الأول والثاني محاولاتي لتقليب رموز تقليدية للذكورية العربية والشامية. وتشارك الأُزُر الإسكتلندية نسقين مع الكُوفِيَّات الشامية المنتشرة بين الرجال في بلاد الشام. ومع أنني لا أرى جدوى في ارتداء لباس تقليدي للرأس وأنا عائش في نيو يورك، إلا أنني أحتفظ بشعور ودي تجاه نسق الكُوفِيَّة‎ كرمز للتراث الثقافي، مما دفعني إلى تخيّل الكُوفِيَّة‎ من جديد كصنف آخر من اللباس الخارج عن معايير النوع الاجتماعي/الجندر: أعني بذلك ال"كِلت" أو الإزار الإسكتلندي. يمثّل هذا العمل بالنسبة لي وسيلة لاستكشاف هويتي الخاصة كأميركي-عربي حر الجنس، وذلك بطريقة تتحدى، على حد سواء، التوقعات الغربية والتوقعات العربية حول الصورة المقبولة لهويتي وأساليبي في التعبير عنها. كما أستكشف، من خلال صورتي وأنا أرتدي النقاب في العمل "لوحة شخصية للشريفة ذاتها"، أوجه التقاطع بين النوع الاجتماعي/الجندر، الهوية، الدين، واللا-امتثالية.

Rima Najdi, This house is virtous and will always remain virtuous, 2021, Live Performance, Duration variable (still)

ويشارك فنانان أخريان في المعرض عن طريق برامج على الإنترنت مفتوحة للعامة. فسوف تقدم لنا ريما نجدي، فنانة مقرها في برلين، عمل أدائي على منصة زوم عنوانه "هذا البيت عفيف وسيظل عفيفاً إلى الأبد".تتقمص ريما في هذا العمل شخصية "الدكتورة سماهر،" مذيعة راديو تعلن التاريخ والوقت والأحوال الجوية وتكهنات أسبوعية مصدرها كروت التاروت. يستكشف هذا الأداء المساحة حرة الجنس التي يشغلها الراقصات الشرقيات في مجتمع "تقليدي" للغاية، كما يستكشف قدرتهم على المطالبة بالتغيير. وسنشاهد في برنامج آخر على الإنترنت إلياس واكيم الذي سؤدي "التاريخ الفلسطيني حر الجنس من تقديم مدام طيّوش" كملكة دراغ فلسطينية. يختبر إلياس قدرة تحرر الجنس على مقاومة الأعراف الاجتماعية، على اعتبار أن إصرار الذات على عيش الحياة بطريقة تتطابق مع واقعها المخالف للنمط هو بحد ذاته فعل مقاوم. وتؤكد لنا هذه الحقيقةَ خلفيةُ إلياس ذاته، فكلا جانبي هويته كملكة دراغ فلسطينية يواجه النفي الاجتماعي: إما من جهة دولة فلسطين التي يعيش فيها تحت ظل الاحتلال، أو من جهة المجتمع المحلي المحافظ الذي وُلد فيه.

ولعل النطاق الواسع من الأعمال المشمولة في هذا المعرض يشهد على قدرة الإبداع لدى الفنانين المشاركين: فهم يدفعون في أعمالهم هذه حدود الوسائط الفنية، وحدود الفضاء، وحدود العلاقة بين الجمهور والفن، وذلك عبر عملية تجمع بين التقصي والتقليب في ماهية الجنس "العربي".

شريف بوشويك
Open Call Exhibition
© apexart 2021

 

To the exhibition page